الفكر الإسلامي

 

 

مدى إمكانية الاعتماد على الروايات التاريخية

فيما يتصل بما شجر بين الصحابة  رضي الله عنهم

(1)

 

بقلم: نور عالم خليل الأميني ، رئيس تحرير المجلة

 

 

 

نقطة العثرة:

     منشأ الخطأ الذي يقع فريسته الذين يدرسون ما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم، أنهم يعتمدون في هذه القصة الحرجة الخطرة التي هي من صميم العقائد الإسلامية، على الروايات التي تضمنتها كتب التاريخ، التي فيها الغث والسمين، فيتخيلون في ضوء دراستها شخصيات أبرزها تلك الروايات، وآمنوا بأنها هي شخصيات الصحابة، وعرضوها على الناس، وأجروا عليها عملية التشريح والانتقاد المر الذي استساغوه لعامة الزعماء والحكام والسلاطين والأمراء، الذين يتنازعون على السلطة، ويتخاصمون على أحط المصالح وأخس الأغراض، ويتهالكون على حطام الدنيا والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، ويُعْمِلُون في تحقيق ذلك كلَّ وسائل الاحتيال والمكر، والخداع والمراوغة، والغدر والخيانة، والمساومة على القيم والمبادئ وأعز المثل.

     على حين أن علماء الإسلام قد أكدوا أن الروايات التاريخية لايُحْتَجُّ بها فيما يتعلق بالعقائد والأحكام والحلال والحرام في الإسلام. وإذا كان ما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم من القضايا العقيدية التي على أساسها يستقيم إسلام المرء ودينه، استوجب العلماء ثبوتَها من الكتاب والسنة وإجماع الأمة(1).

عناية الصحابة بالحديث حفظاً وأداءً:

     وذلك لأن الصحابة رضي الله عنهم – بما أُشْرِبَ في قلوبهم حبُّ النبي صلى الله عليه وسلم - والعلماءُ الذين اتبعوهم بإحسان من الرواة والمحدثين، قد وَعَوْا ونشروا كلَّ قول أو فعل صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم بصورة يعجز تاريخ البشر أن يُقَدِّم لها نظيرًا واحدًا. وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «نَضَّرَ اللهُ عبداً سمع مقالتي فحَفِظَها ووعاها وأدّاها؛ فرُبَّ حامل فقه غيرُ فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه»(2). ولقوله صلى الله عليه وسلم: نَضَّر الله امرءًا سمع منا حديثاً حفظه حتى يبلغه غيره، فإن رب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه»(3). وعن جبير بن مطعم مثل ذلك بفرق خفيف في اللفظ(4)، وروى نحو ذلك النعمان بن بشير(5) وأبوبكرة(6) وأنس بن مالك(7) عن النبي صلى الله عليه وسلم، فنشطوا لحفظ سنته وأدائها إلى الأجيال المتلاحقة بكل معاني الرغبة والحب، وتوفّروا على تبليغها ونشرها.

احتياطهم في رواية الحديث:

     هذه واحدة، والثانية أنهم أخذوا في رواية الأحاديث بالحيطة الشديدة والتمحيص الدقيق التي لم تتيسر لمن اشتغلوا بالتاريخ ورواياته. وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من كذب علي فليتبوأ مقعدَه من النار»(8) ولقوله: «من يقل عليّ مالم أقل فليتبوأ مقعده من النار»(9). وإنما هيأ الله هاتين الخصيصتين للحديث وحفاظه؛ لأنه بيان الكتاب الكريم، كما قال عز من قائل: ﴿وأُنْزِلَ إِلَيْكَ الذِّكْرُ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾(10).

     وهذا التحذير الشديد والوعيد الأكيد جعل الصحابة رضي الله عنهم والعلماء بعدهم يحترزون من الرواية ويتقيدون فيها بالاحتياط اللازم والفحص الكامل، حتى قال الإمام مسلم رحمه الله: «فإذا كان الراوي لها ليس بمعدن للصدق والأمانة، ثم أقدم على الرواية عنه من قد عرفه ولم يبين ما فيه لغيره، ممن جهل معرفته، كان آثماً بفعله ذلك، غاشاً لعوام المسلمين»(11).

     هذه الدرجةَ بلغ العلماءُ في الاحتياط في الرواية والأخذ بجانب الحيطة في هذا الشأن، وذلك لكي يتمكنوا من تمييز الخبيث من الطيب والأصيل من الدخيل في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تجشموا في هذه السبيل كل مشقة، واستعذبوا كل صعوبة، ولم يخافوا في ذلك لومة لائم. يدل على ذلك مارُوِيَ عن يحيى بن سعيد القطان أحد أئمة الجرح والتعديل الأجلاء:

     قال أبوبكر بن خلاد: «دخلت على يحيى بن سعيد في مرضه، فقال لي: يا أبا بكر! ما تركت أهل البصرة يتكلمون؟ قلت: يذكرون خيرًا؛ إلا أنهم يخافون عليك من كلامك في الناس، فقال: اِحفظ عني: لأن يكون خصمي في الآخرة من عرض الناس أحبُّ إليّ من أن يكون خصمي في الآخرة النبي صلى الله عليه وسلم يقول: بلغك عني حديث وقع في وهمك أنه عني غير صحيح – يعني فلم تنكر»(12).

     وبلغ الصحابةُ رضي الله عنهم من حرصهم على الاحتياط أنهم كانوا يتذاكرون الأحاديث لئلا يقعوا في أي خطأ في الأداء، وكان يذاكر بعضهم بعضاً، وكان يستذكر بعضهم بنفسه كأنه يقرأ ورده من القرآ،(13)، وإذا وقع أي شك في قلبهم في حديث تجنبوا الرواية، وكان بعضهم يُخَوِّف بعضاً من الزيادة والنقصان(14).

أمثلة الاحتياط:

     وهناك أمثلة لاتُعَدُّ تدل على مدى حرص الصحابة على التثبت في رواية الحديث، والتأكُّد من صحته، وتجنّب روايته لدى أي شك فيه، وفيما يلي غيض من فيض:

     * قال عبد الله بن الزبير لأبيه: إني لا أسمعك تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يحدث فلان وفلان، قال: أما وإني لم أفارقه، ولكني سمعته يقول: من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار»(15).

     * قال أنس بن مالك: إنه ليمنعني أن أحدثكم حديثاً كثيرًا، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تعمد علي كذبًا فليتبوأ مقعده من النار»(16).

     * روى أسيد بن أبي أسيد عن أمه، قالت: قلت لأبي قتادة: ما لك لاتحدث عن رسول الله كما يحدث الناس عنه؟ قالت: فقال أبو قتادة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كذب علي فليلتمس لجنبه مضجعاً من النار...»(17).

     * كان صهيب يقـــول: «هلمــوا أُحِدِّثْكُمْ من مغــازينـــا، فأمــا أن أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا»(18).

     * قال مجاهد: «صحبت ابن عمر إلى المدينة فلم أسمعه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حديثاً واحداً، قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم...»(19).

     * قال ابن أبي ليلى: كنا إذا أتينا زيد بن أرقم، فنقول: حَدِّثْنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: «إنا قد كبرنا ونسينا، والحديث عن رسول الله شديد»(20).

     * قال سمرة: «إنه ليمنعني أن أتكلم بكثير مما كنت أسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ههنا من هو أكثر مني، كنت ليلتئذ غلامًا، وإني كنت أحفظ ما أسمع منه»(21).

     * وكان عمران بن حصين يتجنب التحدث كثيرًا لئلا يقع في الخطأ(22).

     * وقال شرحبيل بن السمط لكعب: «يا كعب بن مرة، حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واحذر»(23).

     ولا أدل على تثبت المحدثين وعلماء الجرح والنقد في الحديث، وتأكدهم من صحته مما رُوِيَ عن ابن معين: «لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجهاً ما عقلناه»(24).

     وما رُوِيَ عن ابن حنبل أنه سمع الموطأ من بضعة عشر رجلاً من حفاظ أصحاب مالك، ثم أعاده على الشافعي(25).

     وما رُوِيَ عن يحيى بن معين أنه قرأ كتب حماد بن سلمة على ثمانية عشر من تلامذته(26).

     وما رُوِيَ عن أبي حاتم الرازي أنه قال: «لو لم نكتب الحديث من ستين وجهاً ما عقلناه»(27).

     وما جاء عن إبراهيم بن سعيد الجوهري من أن «كل حديث لم يكن عندي من مائة وجه، فأنا فيه يتيم»(28).

     وما جاء عن إبراهيم بن سعيد الجوهري من أن «كل حديث لم يكن عندي من مائة وجه، فأنا فيه يتيم»(28).

     وكانوا يبحثون بحثاً شاملاً، ويفحصون فحصاً دقيقاً عمن كانوا ينقلون عنه الحديث، ويَتَلَقَّوْنَ عنه الرواية، حتى لايعود مجال للشك في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يختلط الصحيح منه بالزائف، قال الحسن بن صالح (100-160هـ): «إذا أردنا أن نكتب عن الرجل سألنا عنه، حتى يقال لنا: أتريدون أن تزوجوه»(29).

     وكانوا ينظرون كذلك إلى طريقة حصول الحديث عند من كانوا يَتَلَقَّوْنَه عنه، قال شعبة: «كنت أنظر إلى فم قتادة، فإذا قال: حدثنا، كتبت، وإذا لم يقل، لم أكتب»(30).

الروايات التاريخية لاتبلغ هذه الدرجةَ من العناية والتثبت والفحص:

     لكن الروايات التاريخية لم يقم رواتها ومُدَوِّنُوها بهذا النقد والفحص والاحتياط الذي كان يقوم به المحدثون ورواة الحديث من الصحابة والتابعين ومن تلقى عنهم من العلماء، والذي ألمحنا إليه في السطور الماضية، كما أنهم لم يُعْنَوا بحفظها وأدائها تلك العنايةَ التي قام بها رواة الحديث والمحدثون فيما يتصل بالحديث، ولو أُجْرِيَتْ عمليةُ النقد والبحث التي أجراها المحدثون في الحديث، في الروايات التاريخية، لما بقي منها 99٪، يقول الدكتور محمد مصطفى الأعظمي في سياق بحثه في الشروط الدقيقة التي يلاحظها المحدثون في قبول الروايات، والتي لايلاحظها – ولايمكن أن يلاحظها – المؤرخون، بعد ما قارن بين منهج النقد عند المحدثين ومنهجه عند المؤرخين: «ومن هنا يثبت بأن شروط المحدثين أقوى وأشد وأصعب بكثير من شروط المؤرخين، وإذا قسنا على هذا المنهج، فلا تكاد تقف وثيقة تاريخية مما يعتبره المؤرخون صحيحاً، على رجليها، ولا تثبت صحتها»(31).

     ويقول: «ومن ناحية أخرى فإن المنهج الذي اختاره المحدثون، قد نفذوه وطبقوه على بحوثهم ودراستهم ونقدهم، بينما يكاد يكون كلام المؤرخين كلاماً نظرياً خيالياً، ولم يطبق إلا في أضيق الحدود في حوادث نادرة جداً، وهذا فرق جوهري آخر بين عمل المحدثين والمؤرخين»(32).

     ويقول المفتي محمد شفيع وهو يتحدث في الموضوع:

     «لو أن المؤرخين نقدوا الروايات التاريخية هذا النقدَ الذي استخدمه المحدثون، ولو أنهم قبلوها بعد هذه الغربلة الدقيقة والفحص البالغ، لما بقيت ولا أربع مائة رواية من الروايات التاريخية، وغابت 99٪ منها في ضمير الغيب، بينما المحدثون انْتَقَوْا بعد هذا الفحص الشديد أربعةَ آلاف من أربع مائة ألف حديث»(33).

     والمحدثون بدورهم الذين يحتاطون هذا الاحتياطَ البالغ في شأن الحديث لايحتاطون هذا الاحتياطَ إذا دخلوا «منطقة التاريخ» فالرواة الذين يضعفونهم في الحديث يقبلون رواياتهم في التاريخ، فهذا محمد بن عمر الواقدي، وسيف بن عمر الأسدي التميمي، ضعفهما أئمة الجرح والتعديل في الحديث؛ لكنهم هم الذين عَوَّلُوا على روايتهما في التاريخ والمغازي والسير(34).

     على كل فتبين من ذلك كله أن الروايات التاريخية تشتمل على الغث والسمين، والرطب واليابس، يقول الإمام ابن الصلاح: «وغالب على الإخباريين، الإكثار والتخليط فيما يروونه»(35).

     ومثل ذلك قال السيوطي في تدريب الراوي(36) وهذا ابن كثير معروف بنقده وبحثه وتنقيبه؛ ولكنه عندما يؤلف كتابه «البداية والنهاية» لايتقيد بالشروط والمبادئ التي يتقيد بها المحدثون، وربما يسرد بعض الروايات، ثم يبدى شكَّه في شأنها وملاحظتَه في صحتها(37).

     وذلك لأنهم كانوا يعلمون أنهم إنما ينقلون هذه الروايات، لكي يعتبر بها الأجيالُ ويتخذ منها تجربة وضياء في الحياة، لا لكي يُثْبِتُوا بها العقائدَ الإسلامية، والأحكامَ الشرعية، والقضايا الدينيةَ(38).

*  *  *

الهوامش:

المفتي محمد شفيع: مقام الصحابة، ص:23.

الرسالة للشافعي 401 ومسند أحمد 1/437 وجامع الترمذي 3/372 وابن ماجة 1/52 وصحيح ابن حبان 1/226 و 227 وجامع بيان العلم عن عبد الله بن مسعود.

مسند أحمد 5/183 وسنن أبي داؤد وسنن الدارمي 1/75 وجامع الترمذي 3/372 وابن ماجة 1/52 وصحيح ابن حبان 1/225 والمستدرك 1/88 وجامع بيان العلم 1/39، عن زيد بن ثابت.

مسند أحمد 4/80 وسنن الدارمي 1/65 والمستدرك 1/86 و 87 وجامع بيان العلم 1/39.

المستدرك 1/88.

جامع بيان العلم 1/40 و 41.

مسند أحمد 3/225.

رواه البخاري وهو حديث متواتر.

رواه البخاري.

النحل: 44.

مقدمة صحيح مسلم 1/28.

شرح علل الترمذي لابن رجب 43 أو تحذير الخواص، ص:119.

ليراجع تفصيل ذلك «دراسات في الحديث النبوي» ص329-332، ومنهج النقد عند المحدثين ص: 124 لمؤلفهما الدكتور محمد مصطفى الأعظمي.

منهج النقد عند المحدثين، ص:124.

رواه البخاري في العلم من صحيحه.

رواه البخاري.

الرسالة للشافعي.

أنساب الأشراف، 1/183.

رواه البخاري.

رواه ابن ماجة.

مسند الإمام أحمد.

رواه الإمام أحمد في مسنده.

رواه ابن ماجة.

كتاب المجروحين من المحدثين: 11، أو المدخل للحاكم: 9.

شرح الزرقاني على المؤطأ.

كتاب المجروحين من المحدثين لابن حبان: 11.

التبصرة والتذكرة للعراقي، 2/233.

ميزان الاعتدال للذهبي، تحقيق البجاوي، القاهرة 1382هـ، ج1، ص:35.

الكفاية في معرفة علم الرواية، ص:93.

كتاب التمييز للإمام مسلم (مخطوطة) دار الكتب الظاهرية – دمشق، 7ب.

منهج النقد عند المحدثين، ص:98.

المصدر السابق.

مقام الصحابة، ص:28.

انظر «مقام الصحابة» ص:29.

علوم الحديث، ص:263.

انظر تدريب الراوي، ص:295.

مقام الصحابة، ص:31.

انظر البحث النافع الذي كتبه المفتي شفيع في هذا الخصوص في كتاب «مقام الصحابة»ولا سيما ص:32-34.

 

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، شعبان 1433 هـ = يونيو- يوليو 2012م ، العدد : 8 ، السنة : 36